مَا لَا يَسَعُ الطَّالِبَ جَهْلُهُ

بقلم: محمد فصيح الدين

الحمد لله الذي هو الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خيرِ الأنام، وعلى آله وصحبه مُقتَدِي الأمم. أما بعد، فهذه الرسالة أكتبُها لمن يسلك طريق العلم والفهم، خاصةً لطلاب العلم الذين لم يزالوا يطالعون الكتابَ، ويحفظون المتونَ، ويتعمقون الشروح والحواشي، ويتناظرون في بحث المسائل الدينية. فإني تذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ».[1] فالتفقه في الدين مخصوص لمن أراد الله به خيرا كما في ظاهر الحديث. والسبيل إليه غير سهل، بل يحتاج إلى عدة خصال لا يتركها طالب العلم كما ذكرها العلماء في كتبهم

وقصدي ومرادي -بوسيلة هذه الرسالة- إلقاءُ التوجيهات والنصائح لهم كما نصحني الفقيرَ عددٌ من مشايخي بالنسبة لطلب العلم وحصوله. أذكر نبذة منها أربعَ خصال

أولاً: النيةُ الخالصة لطلب العلم للعلم نفسِه، وليس لأيِّ غرضٍ دنيويٍ غيرِ ذلك، بأن يقصد به وجهَ الله تعالى. وهذه النية لا يطلع عليها وصدقِها إلا اللهُ عز وجل. فلذلك، أنصح الجميعَ بأن لا يُدخل في نفسه ولا في فكره عند التوجُّه لطلب العلم أيَّ غرض يُعقِّر على ذلك. فإذا أخلص هذه النيةَ، فإن الله سبحانه وتعالى -أول ما يهدي له- أن يجعل طريقَه للوصول إلى العلم ميسَّرًا، ويُزيحَ من طريقه كلَّ العوائق بقدر ما يطلع الله في نفسه على الإخلاص. ولذلك، أُؤَكِّدُ على إخلاص النية، لأن أيَّ تعسّر يمكن للإنسان أن يَعْزُوَه إلى كون نيته غيرَ خالصة

ثانيًا: أن طالب العلم لا يمكن أن يصل إلى نهاية العلم، وإنما يمكنه أن يزيدَ حصيلتَه يومًا بعد يوم، ودرسًا بعد درس. فلذلك، أمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بهذا. وقال له عز وجل: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» ﴿طه: 114﴾. فعلى طالب العلم بعد إخلاص النية أن يَحرِص على الاستزادة من العلم، ولا يُفوِّض وقتا بدون أن يزيد من معلوماته؛ إما بالسماع من العلماء، وإما بالاطلاع على كتب العلم الموجودة بين أيدينا. وأصبحتْ الآن أيسرَ بآلاف المرات مما كان طلابُ العلم الأَقدمين يُعانونه حتى يحصلون عليه

ثالثًا: أن الاستزادة من العلم، يحتاج الطالبُ إليها أن يُشغِل نفسَه بفهم ما تعلَّمه ومعرفةِ ما يُستفاد مما عَرَفه، سواءٌ من ناحية تصحيح الخطأ أو الوهم أو الانتباه، لما كان يخفى عليه قبل ذلك. وأُبيِّن كذلك لطالب العلم أنه كُلَّمَا تَزوَّد من العلم، كلما شعُر بأنه كان ناقصَ المعلومات قبل أن يحصُل هذا العلمَ الزائدَ. ولا تنتهي الكلمةُ الأخيرةُ في العلم، وإنما ينتقل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ بزيادة مبلغه من العلم، وزيادةِ خبرته فيما تعلَّمه، وزيادةِ إفادته لغيره ممن يحتاج إلى الاستفادة منه، سواء كان الذي يستفيد منه قريبٌ له أو بعيدٌ. وكذلك، أن يكون حَرِيْصًا؛ على أن طالب العلم يفيد إفادتَه لها جَدْوًى. أما إذا عرف أنه سيُضيِّع وقته في التعليم لشخصٍ، ثم يجد هذا الشخصَ لا يقدِّرُ هذا العلمَ، فإن عليه أن يتوقف، حتى يحصُل له فكرٌ جديد بأن الطالب الذي أمامه حَرِيْصٌ على تحصيل المعلومات التي يُزوِّدَها به

رابعا: أنه إذا فتح اللهُ عليه أبوابَ تحصيل العلم وفهمِه -ما لم يكن يَفهَمُه في الحقيقة-، يجبُ أن يشكرَ الله عز وجل على ما عَلَّمَه، لأن الشكر يزيد في النعمة، والعلمُ من أكبر النِّعَم. وأيضا، أُحذِّرُه -أي طالبَ العلم- من الغرور، بأنه أصبح يَعْلَم كل شيء حقَّا أو بأنه أفضلُ من غيره فيما يعلَمُه. فالغرور الذي يجعله يتعالى على غيره، ليس من شأن طالب العلم. ولذلك، يجب أن يكون متواضعًا، سواءٌ فيما يتعلَّمه أو فيما يُعَلِّمُه. وهذا التواضعُ هو البابُ الذي تأتي له منه نعمةُ التوفيق. بمعنى: أن من يسمع منه العلمَ، يستفيدُ ويحرِص عليه. وكذلك، من يستجيب له في مداولة العلم لا يُشَاكِسُ معه بالخلافات، ولا يستجيب لمن يريد المشاكسة، بل مِن حقِّه أن يقطع التفاهم معه لأجل زيادة العلم، وأيضا لأجل الحِفاظ على حسن العلاقة بين الطالب وبين غيره من زملائه أو من أساتذته الذين يُعلِّمُون. فهذا كله من أداب طالب العلم حقًّا

كذلك، أرجو أن يكون مُوقِنًا تمامَ اليقين أنه مأجورٌ من الله عز وجل على طلبه للعلم. فالله عز وجل لا يضيع عملَ طالب العلم، وإنما كلما اجتهد في التحصيل، كلما أنعم الله عليه بالفائدة حتى يلمَس بنفسه هذا عندما يكون متواضعا، ينقل العلم بنفس الطريقة الحسنة التي تعلمها من غيره. وبذلك، يكون مأجورا في الطلب ومأجورا في تعليم غيره. وبين الأمرين هو يستعد، إما أن يتعلَّم وإما أن يُعلِّم

وأخيرا، أنصحه كثيراً كثيراً، بأن يحرِص على الوقت أيَّ لحظة تَفُوْتُ من عمره لا يستفيد فيها علما، وهو قاصر وخاسر. وتَذَكَّرْ الحديثَ: «إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذٰلِكَ الْيَوْمِ».[2] وإيَّاهُ بالصَّديق الذي يُبعده من العلم ويُشغله عن غيره، لأن من يبعده عن تحصيل العلم، فليس هو صَديقا، بل هو عَدُوٌّ، يجب أن يُحذِّر بالأداب، ليس بالشِّغار ولا بالمشاكسة، بل قال الله تعالى: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِيْنَ» ﴿الأعراف: 199

فهذا هو أداب العلم من بدايته إلى نهايته. واللهَ أرجوه وأسأله أن يسهِّلنا في حصول العلم، وينفعنا بما عَلَّمَنا وتَعَلَّمْنا، ويقربنا إليه زُلْفٰى بهذا العلم. وفوقَ كل ذي علمٍ عليمٌ. والله أعلم

مالانج، 7 صفر 1444 هـ / 4 سبتمبر 2022 م


[1]متفق عليه. أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037) عن معاوية بن أبي سفيان.

[2]حديث منقول من إحياء علوم الدين (1 / 6) في باب “فضيلة العلم”. وقال العراقي عن هذا الحديث: “هذا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في العلم من حديث عائشة بإسناد ضعيف” اهـ  تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص: 13).

هذا: تحميل PDF